د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل الدخان هو أول العلامات الكبرى للساعة؟
الدخان علامة مؤكَّدة من العلامات الكبرى للساعة:
روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ - فَذَكَرَ - الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ"[1]، يرى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن هذه العلامة حدثت بالفعل، ويتشدَّد في ذلك:
روى البخاري ومسلم -واللفظ له- عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ جُلُوسًا، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ بَيْنَنَا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ يَقُصُّ وَيَزْعُمُ، أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: وَجَلَسَ وَهُوَ غَضْبَانُ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ، مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، فَقَالَ: «اللهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ» قَالَ: فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجُوعِ، وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ أَحَدُهُمْ فَيَرَى كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، قَالَ: أَفَيُكْشَفُ عَذَابُ الْآخِرَةِ؟ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ[2]، وَآيَةُ الرُّومِ[3].
وفي رواية عند البخاري: "فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أتاه أبو سفيان) فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ، قَالَ: «لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ» فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ"[4].
وهذا الذي ذهب إليه ابن مسعود هو مذهب بعض التابعين مثل مجاهد، والنخعي، وأبي العالية، والضحاك، واختاره ابن جرير الطبري.
لكن هناك مذهب آخر يقول بأن الدخان لم يأت بعد، ويكون قبيل يوم القيامة، وهو قول علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، ومن التابعين الحسن البصري، واختاره ابن كثير، ولهم أدلة قوية:
1- أحاديث تذكر الدخان في آخر الزمان مع الدجال والدابة: الطبراني بإسناد جيد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ".. ورَبُّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ كَالزَّكْمَةِ، وَيَأْخُذُ الْكَافِرَ فَيَنْتَفِخُ وَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَسْمَعٍ مِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ الدَّابَّةُ، وَالثَّالِثَةُ الدَّجَّالُ". وهناك أحاديث أخرى كثيرة بالمعنى نفسه عن عدد من الصحابة، ولكن الإسناد ضعيف، ولكن مجموعها يشير إلى صحَّتها.
2- في تفسير عبد الرزاق تصريح علي بن أبي طالب: عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «آيَةُ الدُّخَانِ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَيَنْتَفِخُ الْكَافِرُ حَتَّى يُنْقَدَ».
3- وعند الطبري بسند ضعيف: قَالَ: حُذَيْفَة يَا رَسُول الله وَمَا الدُّخان فَتلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} يمْلَأ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب يمْكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة أما الْمُؤمن فَيُصِيبهُ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزكمة وَأما الْكَافِر بِمَنْزِلَة السَّكْرَان يخرج من مَنْخرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدبره.
4- قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فالدخان في الآية مبين أي واضح بيِّن، وليس خيالًا.
5- قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11]، فالغشيان سيكون للناس عمومًا، وليس لأهل مكة فقط.
6- وقد وجدتُ دليلًا قويًّا على أن الدخان لم يأتِ بعد على خلاف ما يقول ابن مسعود؛ وهو أن أول مشاهد راوي حديث الآيات العشر، أي حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، كان الحديبية، وقد ذكر أنه كان يتذاكر أمر الساعة مع الصحابة فأطلَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما ذكر من الآيات العشر، ومنها الدخان، وكانت بدر قد مرَّت بالفعل، وكان سيتم استثناؤها لو كانت هي المقصودة.
وهناك منحى ثالث نحاه النووي وهو لطيف، وهو أن الدخان دخانان؛ واحد أيام مكة، والآخر قبل الساعة، وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير، مع ترجيح أنه لم يأتِ إن كان لابد من الترجيح.
بل أضيف أنني أعتقد أن الدخان هو أول العلامات الكبرى للساعة لأسباب:
1- ليس منها أنها أول ما ذُكِر في الحديث؛ لأن الترتيب مختلف في الروايات المختلفة، حتى إنه في صحيح مسلم نفسه روايتان بترتيب مختلف، فضلًا عن كتب السنن الأخرى: الترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم.
2- لأن قبل الدجال سيكون قحط لمدة ثلاث سنوات، تزداد في السنة الأخيرة، وهذا القحط يشبه الحالة التي مرَّت بقريش في مكة قبل إسلامها، وصاحَبَها دخان.
3- أن الدخان إنذار للناس قبل غلق أبواب التوبة: الطبراني بإسناد جيد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ".. ورَبُّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ كَالزَّكْمَةِ، وَيَأْخُذُ الْكَافِرَ فَيَنْتَفِخُ وَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَسْمَعٍ مِنْهُ، وَالثَّانِيَةُ الدَّابَّةُ، وَالثَّالِثَةُ الدَّجَّالُ"[5]. لعله الإنذار الأخير قبل الدجال، فهو يعتبر رحمة من الله لأنه يُنَبِّه الناس إلى قرب ظهور الدجال، فيتقوَّى أصحاب الهمم على ملاقاته.
4- إنكار عبد الله بن مسعود لكشف العذاب لكونه افترض أن العذاب يقع يوم القيامة، فهذا لا يُكْشَف بطبيعة الحال، ولكن مراجعة الآيات القرآنية في سورة الدخان تعطي الانطباع بأن الدخان من المراحل الأولى جدًّا في علامات الساعة الكبرى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 10 - 16].
فالدخان المبين الذي يغشى الناس في فترة القحط التي تسبق الدجال سوف يُكْشَف لوقت قليل بعد انتهاء فترة الدجال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} يعيش الناس فيه في رغد مع عيسى عليه السلام وبعده بقليل، ثم يعود الناس للمعاصي: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}، وعندها تقوم الساعة: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى}[6].
[1] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة (2901).
[2] اللزام في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]، واللزام يوم بدر. أما آية الروم فهي غلبة الروم على الفرس.
[3] مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب الدخان (2798).
[4] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم الدخان (4544).
[5] الطبراني في المعجم الكبير (3441).
[6] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك